كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ونتاول طرفًا من الحساب الدقيق في علاقتهما بكوكبنا الأرضي وما عليه من حياة وأحياء..
إن الشمس تبعد عن الأرض باثنين وتسعين ونصف مليون من الأميال. ولو كانت أقرب إلينا من هذا لاحترقت الأرض أو انصهرت أو استحالت بخارًا يتصاعد في الفضاء! ولو كانت أبعد منا لأصاب التجمد والموت ما على الأرض من حياة! والذي يصل إلينا من حرارة الشمس لا يتجاوز جزءًا من مليوني جزء من حرارتها. وهذا القدر الضئيل هو الذي يلائم حياتنا. ولو كانت الشعرى بضخامتها وإشعاعها هي التي في مكان الشمس منا لتبخرت الكرة الأرضية، وذهبت بددًا!
وكذلك القمر في حجمه وبعده عن الأرض. فلو كان أكبر من هذا لكان المد الذي يحدثه في بحار الأرض كافيًا لغمرها بطوفان يعم كل ما عليها. وكذلك لو كان أقرب مما وضعه الله بحسابه الذي لا يخطئ مقدار شعرة!
وجاذبية الشمس وجاذبية القمر للأرض لهما حسابهما في توازن وضعها، وضبط خطاها في هذا الفضاء الشاسع الرهيب، الذي تجري فيه مجموعتنا الشمسية كلها بسرعة عشرين ألف ميل في الساعة في اتجاه نحو برج الجبار. ومع هذا لا تلتقي بأي نجم في طريقها على ملايين السنين!
وفي هذا الفضاء الشاسع الرهيب لا يختل مدار نجم بمقدار شعرة، ولا يختل حساب التوازن والتناسق في حجم ولا حركة.
صدق الله العظيم.. {الشمس والقمر بحسبان}.
{والنجم والشجر يسجدان}..
وقد كانت الإشارة السابقة إلى الحساب والتقدير في بناء الكون الكبير. فأما هذه فهي إشارة إلى اتجاه هذا الكون وارتباطه. وهي إشارة موحية إلى حقيقة هادية.
إن هذا الوجود مرتبط ارتباط العبودية والعبادة بمصدره الأول، وخالقه المبدع. والنجم والشجر نموذجان منه، يدلان على اتجاهه كله. وقد فسر بعضهم النجم بأنه النجم الذي في السماء. كما فسره بعضهم بأنه النبات الذي لا يستوي على سوقه كالشجر. وسواء كان هذا أم كان ذاك فإن مدى الإشارة في النص واحد. ينتهي إلى حقيقة اتجاه هذا الكون وارتباطه.
والكون خليقة حية ذات روح. روح يختلف مظهرها وشكلها ودرجتها من كائن إلى كائن. ولكنها في حقيقتها واحدة.
ولقد أدرك القلب البشري منذ عهود بعيدة حقيقة هذه الحياة السارية في الكون كله.
وحقيقة اتجاه روحه إلى خالقه. أدركها بالإلهام اللدني فيه. ولكنها كانت تغيم عليه، وتتوارى عنه كلما حاول اقتناصها بعقله المقيد بتجارب الحواس!
ولقد استطاع أخيرًا أن يصل إلى أطراف قريبة من حقيقة الوحدة في بناء الكون. ولكنه لا يزال بعيدًا عن الوصول إلى حقيقة روحه الحية عن هذا الطريق!
والعلم يميل اليوم إلى افتراض أن الذرة هي وحدة بناء الكون، وأنها في حقيقتها مجرد إشعاع. وأن الحركة هي قاعدة الكون، والخاصية المشتركة بين جميع أفراده.
فإلى أين يتجه الكون بحركته التي هي قاعدته وخاصيته؟
القرآن يقول: إنه يتجه إلى مبدعه بحركة روحه- وهي الحركة الأصيلة فحركة ظاهره لا تكون إلا تعبيرًا عن حركة روحه- وهي الحركة التي تمثلها في القرآن آيات كثيرة منها هذه {والنجم والشجر يسجدان}.. ومنها: {تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} ومنها: {ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صآفات كل قد علم صلاته وتسبيحه} وتأمل هذه الحقيقة، ومتابعة الكون في عبادته وتسبيحه، مما يمنح القلب البشري متاعًا عجيبًا، وهو يشعر بكل ما حوله حيًا يعاطفه ويتجه معه إلى خالقه وهو في وقفته بين أرواح الأشياء كلها، وهي تدب فيها جميعًا، وتحيلها إخوانًا له ورفقاء!
إنها إشارة ذات أبعاد وآماد وأعماق..
{والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان}.
والإشارة إلى السماء- كباقي الإشارات القرآنية إلى مجالي هذا الكون- تقصد إلى تنبيه القلب الغافل، وإنقاذه من بلادة الألفة، وإيقاظه لعظمة هذا الكون وتناسقه وجماله، وإلى قدرة اليد التي أبدعته وجلالها.
والإشارة إلى السماء- أيًا كان مدلول السماء- توجه النظر إلى أعلى. إلى هذا الفضاء الهائل السامق الذي لا تبدو له حدود معروفة؛ والذي تسبح فيه ملايين الملايين من الأجرام الضخمة، فلا يلتقي منها اثنان، ولا تصطدم مجموعة منها بمجموعة. ويبلغ عدد المجموعة أحيانًا ألف مليون نجم، كمجموعة المجرة التي ينتسب إليها عالمنا الشمسي، وفيها ما هو أصغر من شمسنا وما هو أكبر آلاف المرات. شمسنا التي يبلغ قطرها مليونا وثلث مليون كيلو متر!!! وكل هذه النجوم، وكل هذه المجموعات تجري في الكون بسرعات مخيفة، ولكنها في هذا الفضاء الهائل ذرات سابحة متباعدة، لا تلتقي، ولا تتصادم!
وإلى جوار هذه العظمة في رفع هذه السماء الهائلة الوسيعة {وضع الميزان} ميزان الحق. وضعه ثابتًا راسخًا مستقرا وضعه لتقدير القيم. قيم الأشخاص والأحداث والأشياء. كي لا يختل تقويمها، ولا يضطرب وزنها، ولا تتبع الجهل والغرض والهوى. وضعه في الفطرة ووضعه في هذا المنهج الإلهي الذي جاءت به الرسالات وتضمنه القرآن:
وضع الميزان.. {ألا تطغوا في الميزان}.
فتغالوا وتفرطوا.. {وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان}.. ومن ثم يستقر الوزن بالقسط، بلا طغيان ولا خسران.
ومن ثم يرتبط الحق في الأرض وفي حياة البشر، ببناء الكون ونظامه. يرتبط بالسماء في مدلولها المعنوي حيث يتنزل منها وحي الله ونهجه. ومدلولها المنظور حيث تمثل ضخامة الكون وثباته بأمر الله وقدرته.. ويلتقي هذان المدلولان في الحس بإيقاعهما وظلالهما الموحية.
{والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان}.
ونحن لطول استقرارنا على هذه الأرض، وألفتنا لأوضاعها وظواهرها، ولوضعنا نحن كذلك عليها. نحن لهذا كله لا نكاد نحس يد القدرة التي (وضعت) هذه الأرض للأنام. وجعلت استقرارنا عليها ممكنًا وميسورًا إلى الحد الذي لا نكاد نشعر به. ولا ننتبه إلى ضخامة معنى الاستقرار، وعظمة نعمة الله علينا فيه إلا بين الحين والحين حين يثور بركان، أو يمور زلزال، فيؤرجح هذه الأرض المطمئنة من تحتنا، فتضطرب وتمور. عندئذ نتذكر معنى الاستقرار الذي نستمتع به على هذه الأرض بنعمة الله.
والبشر خليقون أن يتذكروا هذه الحقيقة في كل لحظة، لو أنهم ألقوا بالهم إلى أن أرضهم هذه التي يركنون إليها، إن هي إلا هباءة سابحة في فضاء الله الوسيع. هباءة تسبح في هذا الفضاء المطلق. تسبح حول نفسها بسرعة نحو ألف ميل في الساعة. وتسبح- مع هذا- حول الشمس بسرعة ستين ألف ميل في الساعة. بينما هي والشمس والمجموعة الشمسية كلها تبعد بجملتها في هذا الفضاء بسرعة عشرين ألف ميل في الساعة متجهة في اتجاه واحد نحو برج الجبار في السماء!
أجل لو أنهم ألقوا بالهم إلى أنهم محمولون على هذه الهباءة السابحة التي تنهب الفضاء نهبًا بهذه السرعة معلقة في أجوازه بغير شيء إلا قدرة الله.. لظلوا أبدًا معلقي القلوب والأبصار، واجفي الأرواح والأوصال، لا يركنون إلا للواحد القهار الذي وضع الأرض للأنام، وأقرهم عليها هذا الإقرار!!
ولقد يسر لهم فيها الحياة، وهي تدور بهم حول نفسها وحول الشمس، وتركض مع الشمس وتوابعها بتلك السرعة المذهلة. وقدر فيها أقواتها التي يذكر منها هنا الفاكهة- ويخص منها النخل ذات الأكمام- (والكم كيس الطلع الذي ينشأ منه الثمر) ليشير إلى جمال هيئتها بجانب فائدة ثمرتها. ويذكر منها الحب ذا الورق والسيقان التي تعصف وتصير طعامًا للماشية. ويذكر منها الريحان. النبات ذات الرائحة.. وهي ألوان من نبات الأرض شتى. منها ما هو طعام للإنسان ومنها ما هو طعام للدواب، ومنها ما هو روْح للناس ومتاع.
وعند هذا المقطع من تعداد أنعم الله وآلائه: تعليم القرآن. وخلق الإنسان. وتعليمه البيان. وتنسيق الشمس والقمر بحسبان. ورفع السماء ووضع الميزان. ووضع الأرض للأنام. وما فيها من فاكهة ونخل وحب وريحان.
عند هذا المقطع يهتف بالجن والإنسان، في مواجهة الكون وأهل الكون: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}.. وهو سؤال للتسجيل والإشهاد. فما يملك إنس ولا جان أن يكذب بآلاء الرحمن في مثل هذا المقام.
ثم ينتقل من الامتنان عليهما بآلاء الله في الكون، إلى الامتنان عليهما بآلائه في ذوات أنفسهما، وفي خاصة وجودهما وإنشائهما: {خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار فبأي آلاء ربكما تكذبان}.. ونعمة الإيجاد والإنشاء أصل النعمة. والمسافة بين الوجود وعدم الوجود ابتداء مسافة لا تقاس أبعادها بأي مقياس مما يألفه البشر. فجميع المقاييس التي في أيدي البشر أو التي تدركها عقولهم، هي مقاييس للفارق بين موجود وموجود. أما المسافة بين الموجود وغير الموجود فلا تدركها مدراك البشر بحال! ونحسب الجن كذلك، فإن هم إلا خلق مقاييس المخلوقات!
فحين يمتن الله على الجن والإنس بنعمة الإيجاد والإنشاء؛ فإنما يمتن عليهما بالنعمة التي تفوق حد الإدراك.
ثم يقرر الحق سبحانه مادة خلق الإنس والجن، وهي كذلك من خلق الله. والصلصال: الطين إذا يبس وصار له صوت وصلصلة عند الضرب عليه. وقد تكون هذه حلقة في سلسلة النشأة من الطين أو من التراب. كما أنها قد تكون تعبيرًا عن حقيقة الوحدة بين مادة الإنسان ومادة الأرض في عناصر التكوين.
وقد أثبت العلم الحديث أن جسم الإنسان يحتوي من العناصر ما تحتويه الأرض. فهو يتكون من الكربون، والأكسيجين، والأيدروجين، والفسفور، والكبريت، والآزوت، والكالسيوم، والبوتاسيوم، والصوديوم، والكلور، والمغنسيوم، والحديد، والمنجنيز، والنحاس، واليود، والفلورين، والكوبالت، والزنك، والسلكون، والألمنيوم. وهذه نفسها هي العناصر المكونة للتراب. وإن اختلفت نسبها في إنسان عن الآخر، وفي الإنسان عن التراب، إلا أن أصنافها واحدة.
إلا أن هذا الذي أثبته العلم لا يجوز أن يؤخذ على أنه التفسير الحتمي للنص القرآني. فقد تكون الحقيقة القرآنية تعني هذا الذي أثبته العلم، أو تعني شيئًا آخر سواه. وتقصد إلى صورة أخرى من الصور الكثيرة التي يتحقق بها معنى خلق الإنسان من تراب، أو طين أو صلصال.
والذي ننبه إليه بشدة هو ضرورة عدم قصر النص القرآني على كشف علمي بشري، قابل للخطأ والصواب، وقابل للتعديل والتبديل، كلما اتسعت معارف الإنسان وكثرت وتحسنت وسائله للمعرفة. فإن بعض المخلصين من الباحثين يسارعون إلى المطابقة بين مدلول النصوص القرآنية والكشوف العلمية- تجريبية أو افتراضية- بنية بيان ما في القرآن من إعجاز. فالقرآن معجز سواء طابقت الكشوف العلمية المتأرجحة نصوصه الثابتة أم لم تطابقها. ونصوصه أوسع مدلولًا من حصرها في نطاق تلك الكشوف القابلة دائمًا للتبديل والتعديل، بل للخطأ والصواب من الأساس! وكل ما يستفاد من الكشوف العلمية في تفسير نصوص القرآن، وهو توسيع مدلولها في تصورنا كلما أطلعنا العلم على شيء مما تشير إليه إشارات مجملة من آيات الله في الأنفس والآفاق، دون أن يحمل النص القرآني على أن مدلوله هو هذا الذي كشفه العلم.
إنما جواز أن يكون هذا بعض ما يشير إليه.